فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ:

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَوْضِعَيْنِ (أَحَدُهُمَا) فِي بَيَانِ صِفَةِ التَّحْلِيفِ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْلِفُ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَاذَا يَحْلِفُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا وَإِمَّا أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ أَوْ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَرَدْت بِالْبَتَّةِ ثَلَاثًا» وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْأَعْوَرَ وَغَلَّظَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا».
وَقَالَ مَشَايِخُنَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْحَالِفِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُخَافُ مِنْهُ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكْتَفِي فِيهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ ذَلِكَ تُغَلَّظُ لِأَنَّ مِنْ الْعَوَامّ مَنْ لَا يُبَالِي عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَاذِبًا فَإِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَمْتَنِعُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْمَالُ الْمُدَّعَى يَسِيرًا يَكْتَفِي فِيهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُغَلَّظُ وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ تَغْلِيظًا فِي الْيَمِينِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْضًا ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ} فَيُعَظِّمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَيَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ الْإِلَهِ إلَّا الدَّهْرِيَّةَ وَالزَّنَادِقَةَ وَأَهْلَ الْإِبَاحَةِ.
وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى إظْهَارِ نِحْلَتِهِمْ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّةِ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُقَدِّرَهُمْ عَلَى إظْهَارِ مَا انْتَحَلُوهُ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي مَا يَكُونُ تَغْلِيظًا فِي دِينِهِ فَعَلَ لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَّظَ عَلَى ابْنِ صُورِيَّا» دَلَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَائِغٌ فَيُغَلِّظُ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى الْمَجُوسِيِّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى مُصْحَفٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْإِنْجِيلَ أَوْ هَذِهِ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَحْرِيفُ بَعْضِهَا فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُحَرَّفِ فَيَكُونُ التَّحْلِيفُ بِهِ تَعْظِيمًا لِمَا لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَبْعَثُ هَؤُلَاءِ إلَى بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ مِنْ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْتِ النَّارِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَكَذَا لَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَيَحْلِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَرُوِيَ أَنَّهُ اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ إلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَضَى عَلَى زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لَمَا احْتَمَلَ أَنْ يَأْبَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ التَّحْلِيفِ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ تَعْظِيمُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ فِي التَّعْظِيمِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَاذَا يَحْلِفُ فَنَقُولُ الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً عَنْ سَبَبٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً عَنْ سَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ أَرْضًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَهُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى فَيُقَالُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْعَبْدُ أَوْ الْجَارِيَةُ أَوْ الْأَرْضُ لِفُلَانٍ هَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا أَوْ غَصْبه أَلْفًا أَوْ أَوْدَعَهُ أَلْفًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ أَوْ عَلَى الْحُكْمِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا اسْتَقْرَضْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ مَا غَصَبْته أَلْفًا أَوْ مَا أَوْدَعَنِي أَلْفًا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُصَرِّحُ فَيَقُولُ قَدْ يُسْتَقْرَضُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَغْصِبُ وَقَدْ يُودَعُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ أَبْرَأهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ وَأَنَا لَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَى.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى السَّبَبِ تَحْلِيفٌ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَيْهِ عَسَى لِجَوَازِ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّبَبُ ثُمَّ ارْتَفَعَ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ السَّبَبِ وَيُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحُكْمِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ الْيَهُودَ بِاَللَّهِ» وَفِي بَابِ الْقَسَامَةِ عَلَى السَّبَبِ «فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا»
فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْحَلِفِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَقْصُودًا هُوَ السَّبَبُ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَهُ الْحَلِفُ عَلَى السَّبَبِ حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَعَرَّضَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا بِعْته هَذَا الشَّيْءَ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْخَصْمُ وَالتَّعْرِيضُ فِي هَذَا أَنْ يَقُولَ قَدْ يَبِيعُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ شَرْطٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ وَأَنَا لَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ كَيْ لَا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ أَوْ شِرَاءٌ قَائِمٌ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِي وَهَكَذَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى الطَّلَاقِ بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا عَلَى كَذَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَا خَالَعَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الزَّوْجُ فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ قَدْ يُخَالِعُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ وَقَدْ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ مِنْك ثَلَاثًا أَوْ مَا هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِالْخَلْعِ أَوْ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ.
وَهَكَذَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى الْعَتَاقِ فِي الْأَمَةِ بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَهُوَ مُنْكِرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ الْمَوْلَى عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ النَّقْضَ فِي هَذَا وَالْعَوْدَ إلَيْهِ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سَبَاهَا أَوْ سَبَاهَا غَيْرُهُ فَاشْتَرَاهَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَدَّعِي الْعِتْقَ هُوَ الْعَبْدَ فَيَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِلَا خِلَافٍ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهُ فِي الرِّقِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِ فِي مِلْكِهِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَا يَحْتَمِلُ السَّبْيَ بَعْدَ الْعِتْقِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَمْ يُعْرَفْ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ كَافِرًا يَحْلِفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلِحَقِّ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُقْتَلُ إنْ أَبَى وَلَا يُسْتَرَقّ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى النِّكَاحِ وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِيهِ فَيَقُولُ الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِاحْتِمَالِ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت تُرِيدُ ذَلِكَ فَطَلِّقْ هَذِهِ ثُمَّ تَزَوَّجْ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا وَإِنْ كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ فَيَحْلِفَ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ أَقَرَّتْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَلَا يُمَكِّنُهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِنْ قَالَتْ مَا الْخَلَاصُ عَنْ هَذَا وَقَدْ بَقِيَتْ فِي عُهْدَتِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ لِي بَيِّنَةٌ وَهَذِهِ تُسَمَّى عُهْدَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْقَاضِي لِلزَّوْجِ طَلِّقْهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَوْ طَلَّقْتهَا لَلَزِمَنِي الْمَهْرُ فَلَا أَفْعَلُ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي قُلْ لَهَا إنْ كُنْت امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ لَوْ كَانَتْ امْرَأَتَك وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَلَا وَلَا يَلْزَمُك شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَبَى يَجْبُرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ تَخَلَّصَ عَنْ تِلْكَ الْعُهْدَةِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى إجَارَةِ الدَّارِ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ مُزَارِعَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا كَانَ صَحِيحًا وَهُوَ الْإِجَارَةُ يَحْلِفُ وَمَا كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ وَالْمُزَارَعَةُ لَا يَحْلِفُ أَصَلًا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِنَاءً عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَلَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ خَطَأً وَأَنَّهُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْت إلَّا إذَا عَرَّضَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَلَيْك الدِّيَةُ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِك وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي الدِّيَةِ فِي فَصْلِهِ الْخَطَإِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَوْ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: حُكْمُ أَدَائِهِ:

وَأَمَّا حُكْمُ أَدَائِهِ فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ لِلْحَالِ لَا مُطْلَقًا بَلْ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ حُكْمُهُ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِحْلَافِ فَكَذَا إذَا اسْتَحْلَفَ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّهُ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْأَجْنَبِيِّ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَكَالْخَلَفِ عَنْ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ فَإِذَا جَاءَ الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخَلَفِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ احْلِفْ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي ادَّعَيْته أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْحَقِّ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ بَرِيءٌ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ لِلْحَالِ أَيْ بَرِيءٌ عَنْ دَعْوَاهُ وَخُصُومَتِهِ لِلْحَالِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ عَنْ الْحَقِّ فَلَا يُجْعَلُ إبْرَاءً عَنْ الْحَقِّ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَأَمَّا حُكْمُ الِامْتِنَاعِ عَنْ تَحْصِيلِهِ:

فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَل عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْمَالِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ عِنْدَنَا لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أَوْ لَحِقَهُ حِشْمَةُ الْقُضَاةِ وَمَهَابَةُ الْمَجْلِسِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ نَكَل عَنْ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَلَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النُّكُولَ فَلَوْ كَانَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَذَكَرَهُ وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَلَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ.
فَاحْتُرِزَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل مَعَ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةَ الْقَضَاءِ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ لَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ فَيَقْضِيَ لَهُ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ جَنْبَهُ الصِّدْقُ فِي دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ادَّعَى عَلَى الْمِقْدَادِ مَالًا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَ الْمِقْدَادُ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدُنَا عُمَر جَوَّزَ ذَلِكَ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالنُّكُولِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَحْلِفُ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَضَى قَضَائِي وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَقْضِي لَهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ إنْكَارُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ عَارَضَهُ النُّكُولُ لِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِي إنْكَارِهِ لَمَّا نَكَل فَزَالَ الْمَانِعُ لِلتَّعَارُضِ فَظَهَرَ صِدْقُهُ فِي دَعْوَاهُ وَقَوْلُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ قُلْنَا هَذَا احْتِمَالٌ نَادِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ مَشْرُوعَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى بِفَوَاتِ حَقِّهِ تَحَرُّزًا عَنْ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ سَاقِطِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا خَبَرُ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الصِّدْقَ سَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا حُجَّةً وَقَوْلُهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَذَكَرَهُ قُلْنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ نَصًّا مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِيُعْرَفَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْكُلِّ فَكَانَ مُؤَوَّلًا عِنْدَ الْكُلِّ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ فَأَنْكَرَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ هَذَا إذَا نَكَل عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَإِنْ كَانَ النُّكُولُ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى فِيهِ لَا بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالْمَالِ لَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ أَبَدًا وَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى فِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ جَمِيعًا وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْأَرْشِ وَالدِّيَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالطَّرَفُ يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ مَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِقَطْعِهَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُهَا صِيَانَةً لِلنَّفْسِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّرَفَ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْمَالِ فَأَمَّا النَّفْسُ فَلَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ بِحَالٍ وَكَذَا الْمُبَاحُ لَهُ الْقَطْعُ إذَا قَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْمُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ إذَا قَتَلَ يَضْمَنُ فَكَانَ الطَّرَفُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَالِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِف فِي النَّفْس عِنْده كَمَا لَا يَسْتَحْلِف فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة لِأَنَّ الِاسْتِحْلَاف لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُود الْمُدَّعِي وَهُوَ إحْيَاء حَقّه بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَقْضِي فِيهَا بِالنُّكُولِ أَصْلًا عِنْده فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحْلِف إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فِي الِاسْتِحْلَاف فِيهَا لِأَنَّ الشَّرْع وَرَدَ بِهِ فِي الْقَسَامَةِ وَجَعَلَهُ حَقًّا مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ مُهْلِكَةً فَصَارَ بِالنُّكُولِ مَانِعًا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مَقْصُودًا فَيُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ فَإِنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِيهَا لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالنُّكُولِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقِصَاصُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ أَصْلًا لِأَنَّ التَّعَذُّرَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ وَهِيَ شَهَادَةُ شُهُودٍ أُصُولٍ مَذْكُورٍ وَالتَّعَذُّرُ هُنَا مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عَدَمُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا بَطَل مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِذَا بَطَل مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَأَمَّا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا حَلَفَ عَلَى الْمَالِ وَنَكَل يُقْضَى بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَأَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ إذَا اسْتَحْلَفَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَكُلٌّ يَقْضِي بِالْحَدِّ فِي ظَاهِرِ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يُقْضَى فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَا يُحَلَّفُ لِأَنَّهُ حَدٌّ وَقِيلَ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى فِيهِ بِالتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنه خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِ يَدِهِ غَيْرَ يَدِ الْمَالِكِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِعِلْمِ الْقَاضِي نَحْوُ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مِلْكًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ فِعْلًا أَوْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ فِعْلًا فَإِنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ فِعْلًا فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْدَعَنِيهَا فُلَانُ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ آجَرَهَا أَوْ أَعَارَهَا أَوْ غَصَبْتهَا أَوْ سَرَقْتهَا أَوْ أَخَذْتهَا أَوْ انْتَزَعْتهَا أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ فَوَجَدْتهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالِافْتِعَالِ وَالِاحْتِيَالِ فَإِنْ كَانَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَنْدَفِعُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُخَمَّسَةِ وَالْحُجَجُ تُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ وَالْفِعْلَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِأَنْ قَالَ هَذَا مِلْكِي غَصْبه مِنِّي فُلَانٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا فَصَارَ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ دَعْوَى مُطْلَقَة فَكَانَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرنَا فَأَمَّا إذَا ادَّعَى فِعْلًا عَلَى ذِي الْيَدِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ دَارِي أَوْ دَابَّتِي أَوْ ثَوْبِي أَوْدَعْتُكهَا أَوْ غَصَبْتنِيهَا أَوْ سَرَقْتهَا أَوْ اسْتَأْجَرْتهَا أَوْ ارْتَهَنْتهَا مِنِّي وَقَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ إنَّهَا لِفُلَانٍ الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهَا أَوْ غَصَبْتهَا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ذَا الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ كَانَ الْخَصْمُ ذَلِكَ الْغَيْرَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَمَّا فِي دَعْوَى الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِفِعْلِهِ لَا بِيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُصُومَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ بِدُونِ يَدِهِ وَإِذَا كَانَ خَصْمًا بِفِعْلِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ خَصْمًا وَلَوْ ادَّعَى فِعْلًا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ بِأَنْ قَالَ غُصِبَتْ مِنِّي أَوْ أُخِذَتْ مِنِّي فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيدَاعِ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ عَلَى مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ عَلَى مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ.
وَلَوْ قَالَ سُرِقَ مِنِّي فَالْقِيَاسُ أَنْ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْدَفِعُ فَرْقًا بَيْنَ الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ الَّذِي ادَّعَيْت الشِّرَاءَ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ سَرَقْتهَا مِنْهُ أَوْ غَصَبْتهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ يَدِهِ يَدَ غَيْرِهِ بِتَصَادُقِهِمَا أَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَبِدَعْوَاهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْيَدِ وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا إقْرَارَهُ لَانْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُسْتَفَادَ لَهُ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ فَوْقَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مُقْتَصِرَةً عَلَى الْمُقِرِّ خَاصَّةً ثُمَّ لَمَّا انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي فَبِعِلْمِ الْقَاضِي أَوْلَى وَلَوْ قَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ابْتَعْته مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ وَالْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُقِرٌّ بِكَوْنِهِ خَصْمًا فَكَيْفَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ مِنْ يَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَأَثْبَتَا الْيَدَ لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي الْجَامِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.